الشيخ الصارم
(إيهاب كمال أحمد)
*********
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، خير خلْق الله أجمعين، وعلى آله وأزْواجه وأصحابه الأخيار الطَّاهرين.
وبعد:
فإنَّ بعض المنصِّرين يزعمون أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يكن له أيّ معجزات تدلُّ على صدق نبوَّته، ويستدلُّون على ذلك بقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
والحقُّ الَّذي لا مرْية فيه أنَّ هذا الزَّعم من الإفْك المبين، والكذِب الصَّريح الَّذي درج عليه هؤلاء المفترون في كل ما يفترونه عن الإسلام، وما قصدوا بذلك إلاَّ التَّشكيك في نبوَّة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورسالته.
فمن المعلوم أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - له معْجزات وآيات كثيرة، أعظمُها القُرآن الكريم الَّذي اشتمل على وجوه متعدِّدة من الإعجاز، مثل: الإعجاز البياني، والإعجاز العِلْمي، والإعْجاز التَّشريعي، والإخبار بالأمور المستقبليَّة والغيبيَّة، وغير ذلك.
وقد تحدَّى الله الكفَّار أن يأتوا بمثله، فعجزوا؛ كما أخبر القُرآن: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وتحدَّاهم أن يأْتوا بعشْر سور من مثله، فعجزوا؛ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].
وتحدَّاهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فعجزوا؛ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
وهذا التَّحدّي قائم إلى قيام السَّاعة لكلّ الإنس والجنّ، فهل يستطيعون أن يأْتوا بمثله؟ نحن نؤكِّد ونجزم أنَّهم لم ولن يستطيعوا أبدًا.
والحمد لله، نحن أمَّة استمرَّ وجود معجزتها بعد وفاة نبيِّها - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ولم يرتبط وجودُها بحياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - كعادة المعجزات التي ترتبط بحياة أصحابها، فالقرآن هو المعجزة الباقية إلى قيام الساعة.
وبالإضافة إلى القرآن فهناك معجزات وآيات حسّيَّة كثيرة، منها[1]:
1- انشقاق القمر:
وقد جاء ذكر ذلك في القُرآن الكريم؛ قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1، 2].
قال ابن كثير: "وقد اتَّفق العلماء مع بقيَّة الأئمَّة على أنَّ انشقاق القمر كان في عهْد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد وردتِ الأحاديث بذلك من طرق تُفيد القطع عند الأمَّة"[2].
وعن ابن مسعود قال: "انشقَّ القمر على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرْقَتَين؛ فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اشْهدوا))"[3].
وفي رواية صحيحة: "انشقَّ القمر على عهد النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتَّى صار فرْقَتَين على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل، فقالوا (أي: الكفَّار): سحرنا محمَّد، فقال بعضهم: لئِنْ كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر النَّاس كلَّهم"[4].
وزاد البيهقي: "فقالت كفَّار قريش أهل مكَّة: هذا سحر سحرَكم به ابنُ أبي كبشة (يقصدون النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم)، انظروا المسافرين فإن كانوا رأَوا ما رأيتُم فقد صدق، وإن كانوا لَم يرَوا ما رأيتُم فهو سحر سحركم به، قال: فسُئِل السفَّار - وقدموا من كلّ وجه - فقالوا: رأيْناه"[5].
قال ابنُ كثير: "فإن قيل: فلِمَ لَم يعرف هذا في جَميع أقطار الأرض؟
فالجواب: ومَن ينفي ذلك؟ ولكن تطاول العهد والكفرة يَجحدون بآيات الله، ولعلَّهم لمَّا أخبروا أنَّ هذا كان آية لهذا النَّبيّ المبعوث، تداعتْ آراؤُهم الفاسدة على كِتمانه وتناسيه، على أنَّه قد ذكر غيرُ واحدٍ من المسافرين، أنَّهم شاهدوا هيْكلاً بالهند مكتوبًا عليْه أنَّه بُنِي في اللَّيلة التي انشقَّ القمر فيها.
ثمَّ لمَّا كان انشقاق القمر ليلاً قد يَخفى أمره على كثيرٍ من النَّاس لأمور مانعة من مشاهدتِه في تلك الساعة، من غيوم متراكمة كانت تلك اللَّيلة في بلدانهم، ولنومِ كثيرٍ منهم، أو لعلَّه كان في أثْناء اللَّيل حيث ينام كثيرٌ من الناس وغير ذلك من الأمور، والله أعلم"[6].
2- تسبيح الطَّعام:
ومن ذلك ما رُوي عن عبدالله بن مسعود أنَّه قال: "لقد رأيتُ الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولقد كنَّا نسمع تسبيح الطَّعام وهو يؤكل"[7].
3- نبوع الماء من بين أصابعه:
ومن ذلك ما رُوي عن أنس - رضِي الله عنه - أنَّه قال: "أُتِي النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإناء وهو بالزَّوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعِه، فتوضَّأ القوم".
وعن عبدالله بن مسعود قال: "كنَّا نعدُّ الآيات بركة، وأنتم تعدّونها تخويفًا، كنَّا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سفر فقلَّ الماء، فقال: ((اطلبوا فضلةً من ماء)) فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يدَه في الإناء ثمَّ قال: ((حيَّ على الطَّهور المبارك، والبركة من الله))، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابِع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[9].
4- حنين النخلة وبكاؤها لفراق النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أنَّ امرأة من الأنصار قالت لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئًا تقعُد عليه؛ فإنَّ لي غلامًا نجَّارًا؟ قال: ((إن شئت))، قال: فعملت له المنبر، فلمَّا كان يوم الجمعة قعد النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المنبر الذي صنع، فصاحت النَّخلة التي كان يخطب عندها حتَّى كادت تنشقُّ، فنزل النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتَّى أخذها فضمَّها إليه فجعلت تئنُّ أنينَ الصَّبي[10] الذي يُسَكَّت حتَّى استقرَّت، قال: "بكتْ على ما كانت تسمع من الذِّكْر"[11].
5- انقياد الشجرة له:
فعن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنْهما - أنَّه قال: "سِرنا مع رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - حتَّى نزلنا واديًا أفيح، فذهب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم ير شيئًا يستتِر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى إحداهما فأخذ بغُصن من أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوش[12] الَّذي يصانع قائده حتَّى أتى الشَّجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف ممَّا بينهما (أي: في المنتصف)، لأَمَ بينهما (يعني جمعهما) فقال: ((التئِما عليَّ بإذن الله)) فالتأمَتَا"[13].
6- تسبيح الحصى بين يديه وأيدي أصحابه:
فعن أبي ذرٍّ قال: "إني انطلقت ألتمِس رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بعض حوائط المدينة، فإذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاعد، فأقبل إليه حتَّى سلم عليه، وحصيات موضوعة بين يديه، فأخذهنَّ في يده فسبَّحن في يده، ثمَّ وضعهنَّ في الأرض فسكتنَ، ثمَّ أخذهنَّ فوضعهنَّ في يد أبي بكر فسبَّحن في يده، ثمَّ أخذهنَّ فوضعهنَّ في الأرض فخرسْن، ثمَّ أخذهنَّ فوضعهنَّ في يد عمر فسبَّحن في يده، ثمَّ أخذهنَّ فوضعهنَّ في الأرض فخرسْن، ثمَّ أخذهنَّ فوضعهنَّ في يد عثمان فسبَّحن، ثمَّ أخذهنَّ فوضعهنَّ في الأرض فخرسْن"[14].
7- الشاة المشوية التي أخبرت النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّها مسمومة:
فعن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - أنَّ يهوديَّة بخيبر أهدتْ لرسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - شاة مصلية سمَّتها، فأكل وأكل القوم، فقال: ((ارفعوا أيديَكم فإنَّها أخبرتْني أنَّها مسْمومة))، فمات بشر بن البراء بن معْرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهوديَّة: ما حمَلك على الَّذي صنعت؟ قالت: إن كنتَ نبيًّا لم يضرّك الَّذي صنعتُ، وإن كنت ملكًا أرحتُ النَّاس منك، فأمر بها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقُتِلَتْ[15].
8- دعاؤه المستجاب:
ففي أحداث كثيرة كان النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو فيستجاب له فورًا، على نحو يثبت مدى صدق ما يتكلَّم به، ومن ذلك:
ما رُوي عن عبدالله بن مسعود: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما رأى قريشًا استعصوا عليه فقال: ((اللهُمَّ أعنِّي عليهم بسبعٍ كسبْع يوسف)) – أي: بمثل السّنين العجاف الَّتي ابتُلي بها قوم يوسف عليه السلام - فأخذتهم السَّنة (أي: الجفاف والقحط) حتَّى حصت كلَّ شيء، حتَّى أكلوا العظام والجلود والميتة، فأتاه أبو سفيان فقال: أيْ محمَّد، إنَّ قومَك قد هلكوا، فادْعُ الله أن يكشِف عنهم، فدعا فانكشف عنهم العذاب[16].
وعن أنس بن مالك قال: "أصابت النَّاسَ سنةٌ (أي: جفاف وقحط) على عهد النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبيْنا النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العِيال فادْعُ الله لنا، فرفع يديْه وما نرى في السَّماء قزعة (أي سحاب) فوالَّذي نفسي بيده، ما وضعها حتَّى ثار السَّحاب أمثال الجبال، ثمَّ لم ينزل عن منبرِه حتَّى رأيت المطر يتحادَر على لحيته - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمُطِرْنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والَّذي يليه حتَّى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره - فقال: يا رسولَ الله، تهدَّم البناء وغرق المال فادع الله لنا، فرفع يديْه فقال: ((اللهُمَّ حواليْنا ولا عليْنا))، فما يُشير بيده إلى ناحيةٍ من السَّحاب إلاَّ انفرجتْ وصارت المدينة مثل الجَوْبة (أي: مثل فرجة في وسط السحاب) وسال الوادي قناةً شهرًا، ولم يَجِئْ أحدٌ من ناحية إلاَّ حدَّث بالجَوْد (أي: المطر الغزير)"[17].
9- تكثير الطعام:
فعن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - قال: "لمَّا حفر الخندق رأيتُ بالنَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - خمصًا شديدًا (أي: هزالاً من قلَّة الطَّعام) فانكفأتُ إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيتُ برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خمصًا شديدًا، فأخرجتْ إليَّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت الشَّعير، ففرغت إلى فراغي وقطعتها في بُرمتِها (وهي إناء للطبخ) ثمَّ ولَّيت إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: لا تفضحْني برسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وبِمن معه (أي: لا تخبره بالوليمة علانية لأنَّ الطَّعام لن يكفي كلَّ الجيش) فجِئْتُه فساررتُه (أي: كلمته سرًّا) فقلت: يا رسول الله، ذبحْنا بهيمة لنا وطحنَّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعالَ أنت ونفر معك.
فصاح النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يا أهل الخندق، إنَّ جابرًا قد صنع سورًا (أي وليمة) فحيَّهلاً بكم)) (أي: هلمّوا مسرعين)، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تنزلن بُرمتكم ولا تخبزن عجينَكم حتَّى أجيء))، فجئت وجاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقدِّم النَّاس حتَّى جئتُ امرأتي، فقالت: بكَ وبكَ، فقلتُ: قد فعلتُ الَّذي قلت، فأخرجتْ له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثمَّ عمد إلى بُرْمتنا فبصق وبارك، ثمَّ قال: ((ادع خابزة فلتخبِز معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها))، وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتَّى تركوه وانحرفوا (أي: مالوا عن الطَّعام)، وإن بُرمتنا لتغطّ كما هي، وإنَّ عجيننا ليخبز كما هو"[18].
10- التنبؤ بأمور تحدُث في المستقبل:
فقد تنبَّأ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكثير من الأشياء التي تحدث في المستقبل، وقد وقعت كما أخبرنا تمامًا، وهذا دليل على أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أطلع الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أمور غيبيَّة.
قال ابن كثير في تاريخه: "ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستّمائة، فيها كان ظهور النَّار من أرض الحجاز الَّتي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتَّفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشَّيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقْدسي في كتابه "الذيل" وشرحه[20]، واستحضره من كُتُب كثيرة وردتْ متواترة إلى دمشق من الحجاز بصِفة أمر هذه النَّار الَّتي شوهدت معاينة، وكيفيَّة خروجها وأمرها.
وملخَّص ما أورده أبو شامة أنَّه قال: "وجاء إلى دمشق كتُب من المدينة النبويَّة - على ساكنها أفضل الصَّلاة والسَّلام - بخروج نار عندهم في خامس جُمادى الآخرة من هذه السَّنة، وكتبت الكتُب في خامس رجب، والنَّار بحالها، ووصلت الكتب إليْنا في عاشر شعبان"، ثمَّ قال: بسم الله الرَّحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعْبان من سنة أرْبع وخمسين وستّمائة كتُب من مدينة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيها شرح أمرٍ عظيم حدَث بها، فيه تصديق لما في الصَّحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقومُ السَّاعة حتَّى تَخرج نارٌ من أرض الحجاز تُضيء لها أعناقُ الإبل ببصرى))، فأخْبرني مَن أثِق به ممَّن شاهدها أنَّه بلغه أنَّه كتب بتيماء على ضوئها الكتُب.
وقال الذَّهبي: "أمْر هذه النَّار متواتِر، وهي ممَّا أخبر به المصْطفى - صلواتُ الله عليه وسلَّم - حيث يقول: ((لا تقوم السَّاعة حتَّى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى))، وقد حكى غير واحد ممَّن كان ببصرى في اللَّيل، ورأى أعناق الإبل في ضوئها"[22].
11- شفاؤه لبعض المرضى بإذن الله:
فقد مكَّن الله رسولَه - عليه الصَّلاة والسَّلام - من شفاء بعض المرْضى بغير الأسباب المعروفة المعهودة، فقد بصق رسول الله - عليه الصلاة والسلام - في عين عليّ بن أبي طالب ودعا له بعد أنِ اشتكى من عينه، فشفيت بإذن الله، وكان ذلك في غزوة خيبر[23].
وردَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عين قتادة بن النعمان - رضي الله عنْه - إلى موضعها بعد ما سالت على خدِّه، فأخذها في كفِّه الكريم وأعادها إلى مقرِّها، فاستمرَّت بحالها وبصرها، وكانت أحسن عينيْه وأحدَّهما، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وكان ذلك في غزوة أحد[24].
12- خصاله وصفاته ومكارم أخلاقه التي لا تكون إلاَّ لنبي:
فمن أكبر الأدلَّة على صدق نبوَّة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: شخصية الرَّسول نفسه، وما تحلَّى به من مكارم الأخْلاق وحسن الخصال وجَميل الخلال، حيث بلغ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - درجة من الكمال البشَري في حسن الصفات والأخلاق لا يمكن أن تكون إلاَّ لنبيٍّ مرْسَل من عند الله، فقد بلغ اعتناؤُه بالخلق درجة تعليل رسالتِه وبعثته بتقويم الأخْلاق وإشاعة مكارمها، والعمل على إصلاح ما أفسدتْه الجاهليَّة منها؛ فقد جاء في الحديث الشَّريف عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنه قال: ((إنَّما بعثت لأتمِّم صالح الأخلاق))[25].
وجعل رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أكثر المسلمين ظفرًا بحبِّه والقرب منه مجلسًا يوم القيامة هم الَّذين حسنت أخلاقهم حتَّى صاروا فيها أحسن من غيرهم.
وصدَقَ القائلُ إذْ يقول في وصفه - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
يَا مَنْ لَهُ الأَخْلاقُ مَا تَهْوَى العُلا مِنْهُ وَمَا يَتَعَشَّقُ الكُبَرَاءُ لَوْ لَمْ تُقِمْ دِينًا لَقَامَتْ وَحْدَهَا دِينًا تُضِيءُ بِنُورِهِ الآلاءُ زَانَتْكَ فِي الخُلُقِ العَظِيمِ شَمَائِلٌ يُغْرَى بِهِنَّ وَيُولَعُ الكُرَمَاءُ |
ولله درُّ القائل:
بَلَغَ العُلا بِكَمَالِهِ كَشَفَ الدُّجَى بِجَمَالِهِ حَسُنَتْ جَمِيعُ خِصَالِهِ صَلُّوا عَلَيْهِ وَآلِهِ |
وبعد، فهل يتحقَّق كلّ ذلك من معجزات مؤيّدة للنَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يكون بعد ذلك صادقًا في نبوَّته؟! والله إنَّ قائل هذا ليشتم الله - عزَّ وجلَّ - بأقْبح الشتائم، أن يظلَّ أحدٌ يكذب عليه السّنين تلْو السنين وهو يؤيِّدُه ويصدقه بالمعجزات وخوارق العادات، ولا يخْذله في موقف يدعوه فيه أو يطلب فيه معجزة، بل يؤيِّده ويصدقه ويستجيب له، أيحدثُ كلُّ هذا من الله - عزَّ وجلَّ - لِمَن يظلُّ يكذب ويستمرّ وهو يستمرّ في تصديقه؟! هل يقول هذا إلاَّ مَن يشتم الله ويكفر به ليل نهار؟! ثمَّ كيف يخبر بالأمور الغيبيَّة الَّتي سوف تحدُث في مستقبل الزَّمان بعد وفاته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإلى يوم القيامة، ثمَّ لا يقع شيءٌ إلاَّ موافقًا لما أخبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثمَّ بعد ذلك لا يكون نبيًّا، فمتى يكون النَّبي نبيًّا إذًا؟!
ألا لعنة الله على المنصِّرين الكافرين، والمجْرمين المكذِّبين بنبوَّة النَّبي الأمين، محمَّد - صلَّى الله عليْه وعلى آله وأصْحابه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
لأنَّ المقصود بالآيات المذْكورة في هذه الآية هو: آيات محدَّدة طلبها الكفَّار وجعلوها شرطًا لإيمانهم، وجرت سنَّة الله وحكمه أنَّ الكفَّار إذا طلبوا آياتٍ محدَّدةً واستجاب الله لطلَبهم ثمَّ كفروا رغم ذلك، أن ينزل الله بهم العذاب، فلم يرسل الله هذه الآيات التي طلبها كفَّار مكَّة لعلمه أنهم سيكذّبون بها، وبذلك سيحقُّ عليهم العذاب.
فعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: "سأل أهل مكَّة النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يجعل لهم الصَّفا ذهبًا، وأن ينحِّي الجبال عنهم فيزدرعوا (أي: يزرعوا).
فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم (أي: تمهلهم)، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم، قال: ((لا، بل أستأني بهم))، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}[28].فالآية لا تنفي وجود معجزات وآيات دالَّة على نبوَّة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولكن الآية تذكر آيات معيَّنة طلبها الكفَّار فلم يستجب الله لهم رأفةً بهم.
فمعنى الآية كما قال القرطبي، ونقله عن قتادة وابن جريج وغيرهما: "وما منعنا أن نرْسِل بالآيات الَّتي اقترحوها إلاَّ أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم ... فأخَّر الله - تعالى - العذاب عن كفَّار قريش؛ لعلمه أنَّ فيهم مَن يؤمن، وفيهم مَن يولد مؤمنًا"[29].
نسأل الله أن يرزُقَنا اتّباع سنَّة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأن يحشرنا في زمرته، وأن يسقِيَنا من يده الشَّريفة شربة هنيئةً لا نظمأ بعدها أبدًا.
اللهُمَّ اجزِه عنَّا خيرَ ما جزيت نبيًّا عن أمَّته، ورسولاً عن قومه، وآتِه الوسيلة والفضيلة، وابعثْه مقامًا محمودًا الَّذي وعدته.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبدِه ورسوله محمَّد خير الأنام، وعلى آله وأزْواجه وأصحابه ومَن تبِعَهم بإحسان.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] وربَّما تسمَّى آيات أو دلائل نبوَّة، على اعتبار أنَّ المعجزة يقصد بها التحدي وإظهار عجْز الكفار.
[2] البداية والنهاية (6 /82).
[3] البخاري (4486)، ومسلم (5010).
[4] الترمذي (3211) وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي (3289).
[5] دلائل النبوة للبيهقي (2/276)، وانظر: البداية والنهاية (6/84).
[6] البداية والنهاية (6/85).
[7] البخاري (3314).
[8] البخاري (3307).
[9] البخاري (3314).
[10] أي: تبكي مثل الطفل الصغير.
[11] البخاري (1953).
[12] المخشوش: أي الذي وضع في أنفه عودًا ليكون سهل الانقياد والخضوع.
[13] مسلم (5328).
[14] أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، وصحَّحه الألباني في "ظلال الجنَّة" (1146).
[15] البخاري (2933)، وأبو داود (3912).
[16] البخاري (4450)، ومسلم (5006).
[17] البخاري (881)، ومسلم (1490).
[18] البخاري (3793)، ومسلم (3800).
[19] البخاري (6585)، ومسلم (5164).
[20] أي: كتاب "ذيل الروضتين" لأبي شامة، وهو من العلماء الذين عاصروا هذه الواقعة التاريخية.
[21] البداية والنهاية (13/219).
[22] تاريخ الإسلام (10/418).
[23] البخاري (3425).
[24] سيرة ابن هشام (2/82)، وابن سعد (1/188)، وسير أعلام النبلاء (2 /332)، والبداية والنهاية (6 /326).
[25] أخرجه أحمد (8595) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وسنده صحيح، قال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد ورجاله رجال الصَّحيح، وصحَّح العجلوني سنده في "كشف الخفا"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2349).
[6] البداية والنهاية (6/85).
[7] البخاري (3314).
[8] البخاري (3307).
[9] البخاري (3314).
[10] أي: تبكي مثل الطفل الصغير.
[11] البخاري (1953).
[12] المخشوش: أي الذي وضع في أنفه عودًا ليكون سهل الانقياد والخضوع.
[13] مسلم (5328).
[14] أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، وصحَّحه الألباني في "ظلال الجنَّة" (1146).
[15] البخاري (2933)، وأبو داود (3912).
[16] البخاري (4450)، ومسلم (5006).
[17] البخاري (881)، ومسلم (1490).
[18] البخاري (3793)، ومسلم (3800).
[19] البخاري (6585)، ومسلم (5164).
[20] أي: كتاب "ذيل الروضتين" لأبي شامة، وهو من العلماء الذين عاصروا هذه الواقعة التاريخية.
[21] البداية والنهاية (13/219).
[22] تاريخ الإسلام (10/418).
[23] البخاري (3425).
[24] سيرة ابن هشام (2/82)، وابن سعد (1/188)، وسير أعلام النبلاء (2 /332)، والبداية والنهاية (6 /326).
[25] أخرجه أحمد (8595) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وسنده صحيح، قال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد ورجاله رجال الصَّحيح، وصحَّح العجلوني سنده في "كشف الخفا"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2349).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق