الجمعة، 27 أغسطس 2010

النسخة المصرية من محاكم التفتيش الكنسية



جمال سلطان 

التقرير الخطير الذي نشرته صحيفة المصريون قبل أيام عن إصابة "كاميليا شحاتة" بالجنون من جراء عمليات التعذيب والمؤثرات الطبية التي تتناولها كرها "حبوب الهلوسة" أعاد إلى ذاكرتي ما كنت أقرأه عن "محاكم التفتيش" في عصور الظلام التي عرفتها إسبانيا منذ القرن الخامس عشر الميلادي وحتى القرن التاسع عشر عندما اجتاحت كتائب نابليون إسبانيا واقتحمت بعض الأديرة المعروفة بممارسة التعذيب ضد الخارجين على الكنيسة والمهرطقين ومن يشتبه في كونهم "مسلمين" ، وكان القساوسة يختطفون المشتبه في تغيير ديانته ثم يخفونه في دهاليز وأقبية صنعوها بإحكام في بعض الأديرة الكبيرة تحت الأرض ، حيث تعقد لهم جلسات محاكمة عقدية تليها عمليات تعذيب بشعة تنتهي بالموت البطيئ أو الإعدام المباشر فضلا عن تقطيع الأجساد وانتزاع الألسن وشق البطون ونزع أثداء النساء وأمور مروعة أخرى من ممارسات الكهنة والقساوسة حكتها باستفاضة وباللوحات الفنية الكتب الكثيرة التي نشرت عن وقائع تلك الممارسات الكنسية البشعة ، وكان مما لفت نظري في تلك المحاكم ما ذكرت عن إصابة عدد كبير من الضحايا بالجنون من جراء ممارسات التعذيب ، انتهت محاكم التفتيش الكنسية من أوربا في القرن التاسع عشر ، وما زالت الكنيسة هناك تقدم الاعتذارات حتى الآن عن ذلك التاريخ الدموي والظلامي الخطير الذي راح ضحيته مئات الآلاف من البشر ، ويكون من المؤسف أن يحاول تيار متطرف في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية إحياء ممارسات ذلك التاريخ الأسود ونحن في القرن الحادي والعشرين ، لأننا أمام نفس السيناريوهات الخطيرة التي كانت تقدم ، عمليات اختطاف أو اعتقال للخارجين على الكنيسة بدعم سلطوي رسمي أو تغطية رسمية ، حيث يتم إلقاؤهم في مجاهل السراديب والأقبية أو المنشآت البعيدة عن الأعين لتمارس عليهم أسوأ ألوان التعذيب والضغوط العصبية والنفسية والبدنية مما ينتهي بهم إما إلى الموت وإما إلى الجنون ، والجدير بالذكر أن واقعة السيدة "وفاء قسطنطين" التي اختطفتها الكنيسة وحبستها بعد إعلان إسلامها انتهت إلى الاتهام العلني الصريح لقيادة الكنيسة بقتلها ، وقد أعلن ذلك الدكتور زغلول راغب النجار وغيره علنا شفاهة وكتابة وبالفم الملآن ، دون أن تتحرك شعره في رأس أي كاهن مصري ، بما في ذلك البابا شنوده نفسه ، الكل التزم الصمت ، رغم أنه اتهام خطير للغاية ، اتهام بالقتل ، ومنذ قرابة ست سنوات حتى الآن لا يعلم أحد أين "جثمان" هذه السيدة التي أثارت ضجة في مصر ، أين اختفت ، ورغم أن كلام زغلول النجار يمثل بلاغا علنيا عن جريمة قتل إلا أن جهة قضائية في مصر لم تتحرك نهائيا ، ولم يجرؤ أحد حتى على شكايته بتهمة البلاغ الكاذب ، لأن التحقيق سوف يستلزم إحضار صاحبة الشأن "وفاء" ، ولما كان الجميع يشعر بالفضيحة فالكل يهرب من أي خطوة تضعهم أمام حرج الاضطرار إلى استدعاء قانوني جبري لها ، وما زال الاتهام العلني معلقا حتى الآن بتهمة قتل وفاء قسنطنطين ، وهذا من عجائب الدنيا الآن ، ويستحيل تصور حدوثه في أي بلد محترم أو يعرف أبجديات شيئ اسمه القانون ، فلا الدولة تحقق في الجريمة الخطيرة ولا الكنيسة تستطيع أن تقول شيئا عن مصير الضحية ولا أن تدفع عن نفسها تهمة القتل ، رغم أن الكنيسة ومحاميها يهرعون إلى النائب العام عمال على بطال وفي أتفه الأمور ، فلماذا هنا تحديدا ألجم الجميع والتزموا الصمت ، والآن دخلت إلى "سراديب" محاكم التفتيش ضحية جديدة ، وهي السيدة "كاميليا شحاتة" واختفت عن الأعين ، حيث تم تسريب أخبار مروعة عن تعرضها لعمليات تعذيب وصلت بها إلى الجنون ، ويخشى أن يكون مصيرها هو القتل أيضا مثل "وفاء قسطنطين" ، وعلى الرغم من تقديم بلاغات عديدة إلى النائب العام تطالب بالتحقيق في احتجازها وتقييد حركتها وحريتها وعزلها عن العالم بدون أي مسوغ قانوني وانتشار أخبار تعرضها للتعذيب النفسي والبدني ، إلا أن البلاغات كلها تقريبا حفظت وما تبقى منها في طريقه إلى الحفظ ، ولكن هناك إصرارا هذه المرة من جمع كبير من المحامين والناشطين على الاستمرار في الضغط القانوني بسلسلة من الإجراءات سوف تجهد أجهزة الدولة والكنيسة كثيرا وتعرض مصداقية مؤسسة العدالة للحرج البالغ ، إنه لمن المؤسف أن يعيد التيار المتطرف داخل الكنيسة الأرثوذكسية المصرية ذلك التاريخ المظلم لمحاكم التفتيش بعد أن تبرأ منه العالم كله بوصفه وصمة عار في جبين الإنسانية ، ولكن المؤسف أكثر أن هذا العار لا يلحق بالكنيسة وحدها ، وإنما يلحق بمصر الدولة والنظام والعدالة بنفس الدرجة أيضا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق