الأحد، 19 سبتمبر 2010

مأساة كامليا ومأزق الكنيسة



محمد يوسف عدس 

سألنى بعض الأصدقاء قالوا: لماذا تنأى بقلمك بعيدا عن القضايا الساخنة.. قلت ليس هذا صحيحا بإطلاق.. وإذا فعله كاتب متعمدا فإنى أشك فى مصداقيته.. ولكنى حرصت دائما فى كتاباتى على أن أتناول الموضوعات التى لا يتطرق إليها الكتاب الآخرون، وإلى بعض الموضوعات المتداولة أو الساخنة كما تصفونها ولكن من زاوية مختلفة أو جديدة .. وبغير هذا الاتجاه أشعر أننى لا أساهم فى تطوير المعرفة ، ولا أضيف شيئا جديدا إلى الرصيد المعرفىّ المتداول فى الساحة الفكرية، كما أننى أعتقد أن كثيرا من هذه القضايا الساخنة سرعان ما تصبح باردة ثم تموت، ويتلاشى مع الوقت كل ما كُتب عنها من الرصيد المعرفى، فلا يبقى سوى الانطباعات العامة.. علاوة على ذلك لا أحب أن أنافس فى موضوعات معينة أصبحت تخصصا لكُتّاب آخرين مرموقين أشبعوها بحثا وتفصيلا.. و أضرب لذلك مثلا بكتابات الصديقين الأستاذين جمال ومحمود سلطان، فى موضوع الكنيسة الأرثوذكسية ومأساة المسلمات المعتقلات فى سجون الكنيسة...

قالوا ولكنك تتحدث معنا فى الموضوع نفسه ونرى لك وجهة نظر جديرة بالذكر فلماذا لا تعبر عن رؤيتك فى مقالة كاملة..؟! قلت أحاول فى هذه العجالة أن أبرز أهم ملامح رؤيتى فى هذا الموضوع ، معتذرا للقراء عن قطع سلسلة مقالاتى عن الغزو الأمريكي لأفغانستان .. فلا شك عندى أن السيدة المسلمة كامليا ووفاء قسطنطين وأخواتهما يتحملن أسوأ نوع من الطغيان الكنسى الذى أعاد إلى الذاكرة جرائم محاكم التفتيش الكنسي فى أوربا العصور الوسطى .. وأعتقد يقينا أن عدم التحرك لإنقاذ الأسيرات المسلمات جريمة دينية وأخلاقية وإنسانية... ولكن ما ينبغى لفت النظر إليه هنا هو أن الضغوط الشعبية المستمرة والمتصاعدة من جانب المواطنين المسلمين توشك أن تؤتى ثمارها... وقد يستغرب القارئ هذه الحقيقة...! ولكنى أؤكّد له أن هذه الضغوط المتواصلة قد نجحت بالفعل فى تفجير العقد الفكرية الكنسية التى نمت وتراكمت فى الظلام ضد الإسلام والمسلمين فى مصر.. وأصبحت الكنيسة عارية.. فضحتها تصريحات كبار الكهنة ، الذين أصبحو يعبرون بغباء غير مسبوق وبجاحة .. فينطقون كفرا ويشيعون كذبا وافتراء على الحقيقة والتاريخ.. يقول واحد منهم: "إن المسلمين ضيوف علينا فى مصر...!" إلى آخر هذا الكلام الغبي..! والرد البديهيّ والمنطقى والواقعي على هذا الهراء هو: أن الثمانين مليونا من المصريين المسلمين اليوم ليسو ضيوفا على أحد بل هم أصحاب الأرض والتاريخ الذى ينتمى إلى ماقبل وصول عمرو بن العاص .. وقبل انتشار الإسلام فى مصر.. كانوا مصريين أو أٌقباط إن شئت أبا عن جدّ .. امتزجوا بالأقلية القليلة من العرب الفاتحين والمهاجرين.. التى تم امتصاصها وتمصيرها بتلك الالية العبقرية لمصر، كما عرضها وأشبعها تحليلا الدكتور جمال حمدان فى كتابه (عبقرية مصر).. وكان هؤلاء المسلمون أعظم خلقا وأعظم تقوى وإنسانية من الغزاة الأوربيين الذين قضوا على أجناس بشرية بعشرات الملايين كانت تعيش، وتتمتع بحضارات قديمة فى الأمريكتين واستراليا وفى مناطق أخرى من العالم .. أما المسيحيون فى أوربا فقد قتلوا عشرات الملايين من إخوانهم المسيحيين المختلفين معهم فى بعض معتقداتهم الدينية أو الأيديولوجية، وما مجازر الحرب العالمية الثانية منا ببعيد.. وقد رأينا بأعيننا حديثا حرب الإبادة الجماعية التى شنها الصرب الأرثوذكس على المسلمين فى البوسنة وكوسوفا ..

إن استمرار وجود المسيحيين الذين آثروا البقاء على دينهم فى مصر ولم يعتنقوا الإسلام إلى اليوم لهو البرهان الدامغ على عظمة الأخلاق والتسامح لدى المصريين المسلمين.. فلم يكرهوا إخوانهم النصارى على الإسلام ولا مارسوا عليهم عمليات التعذيب التى تمارسها الكنيسة اليوم على الذين اعتنقوا الإسلام بالتواطؤ مع جهات أمنية.. [سوف تجد نفسها لا محالة فى صدام مباشر مع الكنيسة التى تمادت فى مسلكها ضد القانون وضد مشاعر الأغلبية المسلمة الغاضبة...!]

وكان الأولى بقيادات الكنيسة بدلا من هذه التصريحات الغبية ضد إخوانهم المسلمين أن يعترفو بعظيم فضلهم وسموّ تسامحهم عبر التاريخ الطويل .. ففى أحلك الظروف وخلال الصدامات المسلحة الكبرى مع الغزاة المسيحيين الأجانب.. ورغم انحياز قلة من النصارى مع هؤلاء الأجانب.. كما حدث إبان حملة نابليون على مصر.. فإن هذه الخيانة الوطنية من قلة مأجورة لم تؤثر على استمرار علاقات الأخوة والتسامح بين المسلمين والمسيحيين فى مصر..

أقول: لو أن لدى بعض القيادات الكنسية المنحرفة (التى تصر على إطلاق التصريحات الغبية ضد المسلمين) بقية من حياء الرجال، لكفّوا عن هذا الهراء ولما تفاقمت الأوضاع الطائفية إلى حد الاحتقان .. ولكنهم للأسف لا يستطيعون (فيما أرى) لسبب واضح عندى وبسيط وهو: أن الإصرار على ترديد هذه التصريحات إنما يدل على حقيقة أكاد ألمسها فى كلامهم ومواقفهم.. فهؤلاء يعبرون أقوى تعبير عن حالة مرضية؛ عن نوع من الاضطرابات العقلية تتميز بالانفصال التام عن الواقع، وعدم القدرة على رؤيته، أو فهم أبعاده، ولا استيعاب الآثار المدمرة التى ستترتب على هذا اللغو المنطوق والمنشور..

لذلك فأنا واثق أن هذا النوع من القادة غير مؤهلين عقليا ولا نفسيا ولا دينيا لإدارة صراع بأى مستوى من المنطق أو المعقولية .. ولهذا السبب أراهم خاسرين، إن لم يكن على المدى القريب، فهم بالتأكيد خاسرون على المدى المتوسط والبعيد: إنهم يخسرون اليوم كل العقلاء و الوطنيين الحقيقيين من كلا الجانبين: المسيحيين قبل المسلمين.. وسوف تفشل كل أهدافهم ، وكل ما فكروا فيه وتآمروا لبلوغه فى الظلام.. ولن يفلح فى إيقاف تدهور الأمور.. بين الأغلبية المسلمة الساحقة والأقلية المسيحية أى محاولات مصطنعة تدبرها الكنيسة مع جهات أمنية لامتصاص الاحتقان الطائفى: لا أفلام مفبركة ولا تصريحات بلهاء من كلا الجانبين...!

ولا شيء يمكن أن يهدئ الاحتقان ويعيد الأمور إلى نصابها إلا الاعتراف بالواقع، وعدم القفز على الحقائق أو التحليق فى الأوهام والضلالات والأكاذيب.. وأن تكف الكنيسة عن إقحام نفسها فى العمل السياسي الأحمق، والاستقواء بقوى أجنبية معادية.. والاغترار بضعف السلطة وتواطئها .. وأن تتخلى عن دور محاكم التفتيش.. وأن تطلق سراح المتحولين عن الكنيسة إلى الإسلام...! وأنا واثق أن ظهور قيادات كنسية وطنية رشيدة، على المدى القريب سوف يعيد الأمور إلى وضعها الصحيح .. فليس هناك وطني حقيقي فى مصر يسعى إلى الفتنة الطافية أو يفكر فيها.. والذين يسعون إليها أو يدبرون لها هم قلّة مصابون بالجنون المطبق.. وعلى أي وجه هم الخاسرون لا محالة ، عاجلا أو آجلا .. هذا ما أراه وأثق أنه قادم على الطريق ...

المصريون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق