الجمعة، 26 فبراير 2010

الكنيسة والمادة الثانبة من الدستور




محمد القدوسي

في «هوجة» تعديل الدستور ـ الله لا يرجعها ـ وبينما كانت «مصر» تدفع المادة التي تؤبد الرئاسة وتورثها، كانت «الكنيسة الأرثوذكسية» مشغولة بتعديل مادة أخري، هي المادة الثانية من الدستور، التي تنص علي أن «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع». حيث طالب الناطق الرسمي باسم الكنيسة «الأنبا مرقص»، وحسب نص تصريحه الرسمي هو الآخر: «بحذف الألف واللام من كلمتي المصدر الرئيسي ليصبح التعديل المأمول أن: الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع»؛ وذلك «لضمان وجود مصادر أخري». كما جاء في التصريح نفسه، الذي أراه معبرًا عن وجهة النظر الرسمية للكنيسة، مع كامل التقدير لكل التصريحات ذات المضمون المخالف، والتي صدر بعضها عن «الأنبا شنودة» شخصيا، ذلك أن تصريح «الأنبا مرقص» يعبر عن مجمل مواقف المؤسسة الأرثوذكسية، فضلاً عن أن صفته الرسمية تجعله يرجح غيره مما قيل في سياق «خطب» و«أحاديث إعلامية».

من هنا يتضاعف خطر ما ينطوي عليه ما صدر عن «المتحدث الرسمي»، فهو ليس مجرد تصريح، ولا مطلب، ولا تعبير عن «حساسية» أرضعتها حملات منتظمة من «بث الكراهية»، لكنه «خنجر ذو نصلين» يعبر ـ مضمونًا وتبريرًا ـ عن طائفية لا شك فيها، ويفتح الباب ـ واسعًا ـ أمام النظام لممارسة المزيد من القمع، إذ يجرد الشعب من «معيار منضبط» للمحاسبة، متيحًا للديكتاتورية أن تعبث بمصيره، عبر ثغرة تماثل الثغرات القانونية التي تسمح بـ«الغش التجاري»!

الناطق باسم الكنيسة يريد ألا تقتصر المرجعية علي «الشريعة الإسلامية»، لأنه ـ وحسب نص تصريحه ـ يريد «ضمان وجود مصادر أخري»، غير مبال بأن هذه «المصادر الأخري» غير المحددة تطلق يد النظام لإصدار ما شاء من قوانين لا مرجعية لها، ولا سبيل للطعن في دستوريتها، مادام النظام قادرًا علي إثبات أن لها مرجعية تنتمي إلي «مصادر أخري» حتي وإن كانت هذه المصادر هي أعراف قبائل «الزولو»، أو شعب «الأنكا»، أو «سكان أستراليا الأصليين»، لنصبح بصدد «خليط قانوني» يفتقد الحد الأدني من مقومات «المنظومة»، ويشبه ـ كثيرًا ـ ما «نبلعه» من «خليط» الأغذية غير المطابقة للمواصفات، والتي أصبحت موجودة ـ فقط ـ بفضل ثغرة قانونية متعمدة، بموجبها لا يكون المنتج ملزمًا بتحديد مكونات منتجه علي نحو واضح، بل يكفي أن يكتب ـ مثلا ـ أنه «خليط» من أنواع الشاي، أو من الزيوت، أو «توليفة» من الأدخنة. هكذا يكتب، وهكذا نأكل ونشرب، دون أن نعرف ما الذي نأكل ولا ما الذي نشرب.

وهكذا تصبح منظومتنا القانونية، مع التعديل الذي تريده الكنيسة للدستور: «توليفة من أفخر أنواع القوانين العالمية»! وهو خطر فادح ينطوي عليه مطلب لا سبب له إلا الطائفية في أسوأ صورها مماحكة وتعصبًا، وعدا ذلك لا يمكن إرجاعه إلي أي من عوامل التاريخ، ولا القانون، ولا الواقع، ودعونا نفصل هذه العناوين الثلاثة علي الترتيب:

1 ـ التاريخ:

أفهم أن يطالب البعض ـ بحق أو بغير حق ـ بتغيير مادة «الشريعة الإسلامية» لو كانت مقحمة علي السياق الدستوري المصري، أو لو كانت هذه الشريعة ـ علي الأصل ـ لا تعترف إلا بمن يؤمن بعقيدتها، أما والفرضان غير قائمين، فإن مثل هذا المطلب يصبح محض تكلف بارد. والحقيقة أن الفرضين غير قائمين، وأنه مطلب لا أبرد منه:

> ففي مادته رقم 149 نص دستور 1923 ـ أول دستور للمملكة المصرية بعد استقلالها ـ علي أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية». وهي المادة التي ظل مضمونها قائما عبر كل ما تلي ذلك من دساتير. مع كون صياغة «الإسلام دين الدولة» أبلغ دلالة من «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع». والشاهد أن مضمون هذه المادة مكون أصيل من مكونات الدستور، منذ أن كان لمصر دستور.

> وفي كتابه «نظرة جديدة في سيرة رسول الله» يتحدث الوزير الروماني «كونستانس جيورجيو» عن «الصحيفة» التي كتبها رسول الله صلي الله عليه وسلم، فور وصوله إلي المدينة، والتي يسميها بعض الفقهاء والمؤرخين «الوثيقة» وبعضهم «الدستور»، وهو المسمي الذي يعتمده «جيورجيو» إذ يقول: «حوي هذا الدستور اثنين وخمسين بندا: خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخري. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخري بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء». وهو نص ـ كاتبه مسيحي ـ يشهد بأن «دولة الإسلام» الأولي خصصت أكثر من نصف دستورها لـ«أصحاب الأديان الأخري» ما يؤكد أن الإسلام ـ مبدئيًا، منذ اللحظة الأولي وطوال تاريخه ـ لم يتوقف عند حدود «الاعتراف» بحرية الاعتقاد، وحق أبناء العقائد الأخري في ممارسة شعائرهم فحسب، بل حرص علي تدوين ذلك الاعتراف وهذا الحق في أرفع مدوناته القانونية شأنا، أي دستور المدينة، الذي جعل «المواطنة» ـ لا «العقيدة» ـ أساس العلاقة بين «أهل المدينة» من مسلمين ويهود، حيث نصت الصحيفة علي أن «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم». وجاء فيها أيضا أن «يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة».

ولا يفوتني أن ألفت النظر إلي ما في صياغة هذه «المادة» من مراعاة لحقوق أهل العقائد الأخري، علي نحو يسمو فوق العدل نفسه، إذ نجد الرسول، ومع أنه نبه المسلمين إلي كراهية إطلاق اسم «يثرب» علي المدينة المنورة، يعبر عن المدينة بالاسم الذي أشار هو نفسه إلي كراهيته «يثرب»: من ناحية لأن هذه الكراهية لا تلزم اليهود ـ وهم مواطنون مخاطبون بالصحيفة ـ ومن ناحية أخري لإغلاق الباب أمام الاستغلال سيئ النية لهذا الاختلاف في التسمية، ومما ورد في الصحيفة أيضًا من مواد «المواطنة»: أن «الجار كالنفس غير مضار ولا آثم»، ومقتضي «الجار كالنفس» هو المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات بين المخاطبين بالصحيفة علي اختلاف عقائدهم، مبدأ نعبر عنه الآن بقولنا «المواطنون متساوون أمام القانون»، ومساواة تؤكدها مادة أخري في «الصحيفة» تقول: «وإن علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم». وهي مادة تحرص علي تسجيل الالتزام بـ«البر دون الإثم» أي: الالتزام بتنفيذ الالتزامات بحسن نية، و«حسن النية» هذا هو ما أحسب أننا في حاجة إليه، لنستكمل هذه المراجعة، متمتعين بأقصي درجات المصارحة والأمن، ووجودهما ـ معًا ـ يطمئننا إلي بقاء قاعدة للمواطنة يمكن الاستناد إليها والبناء عليها.

لا تكتمل نظرتنا للتاريخ، ضمن هذه المراجعة، إن لم نلق نظرة ـ حسبنا أن تكون عابرة ـ علي لحظة الفتح الإسلامي لمصر (639 م) ذلك الفتح الذي أؤكد ـ أولاً ـ أن طرفيه كانا: المسلمين العرب من ناحية، والروم (حكام مصر منذ انتصارهم علي كليوباترا البطلمية في موقعة أكتيوم سنة 31 ق.م) بمذهبهم الملكاني من الناحية الأخري. معادلة لم يكن «القبط» بمعني أهل مصر عموماً ـ من مسيحيين ووثنيين ـ أو بمعني «اليعاقبة أتباع الكنيسة الأرثوذكسية» ـ كما سماهم «ألفريد ج. بتلر» في كتابه «الكنائس القبطية القديمة في مصر» ـ طرفاً فيها، وعلي هذا يستوي بالنسبة لهم ـ أي للقبط ـ أن يكون الفتح قد تم حرباً كله، أم صلحاً كله، أم صلحاً في معظمه وحرباً في ثلاثة مواقع حسب ما بين المؤرخين من خلاف. ذلك أن «القبط» ـ بأي من المعنيين المشار إليهما ـ لم يكونوا طرفاً في الحرب (التي كانت بين المحتل الروماني وأعوانه من جهة، والمسلمين العرب من جهة أخري) ولا في الصلح ـ الذي هو بديل عن هذه الحرب ـ لكنهم، مع المسيحيين من أبناء المذهب الملكاني، أصبحوا الطرف الآخر في «الصلح» الذي عقده «عمرو بن العاص» بعد انتصاره علي الرومان، وهو صلح لم ترد فيه أدني إشارة للرومان ـ تأكيداً لأنهم كانوا مجرد جيش محتل جلا عن البلاد وأصبح «خارج تاريخ مصر» منذ الفتح ـ كما لم ترد في الصلح أي إشارة إلي تعويضات ولا عقوبات ولا إجراءات استثنائية ولا غير ذلك مما يفرضه ـ عادة ـ المنتصر علي المهزوم، تأكيدا لأن «القبط» لم يكونوا ذلك الطرف المهزوم، بل لم يكونوا ـ من الأساس ـ طرفاً في تلك المواجهة التي انتهت بانتقال حكم مصر من الرومان إلي المسلمين.

يقول المؤرخ «د. ألفريد ج. بتلر»، في كتابه «فتح العرب لمصر»: «لما مات البطريق الروماني (قيرس)، ورحلت عن مصر جيوش الروم التي كان سلطانه يعتمد عليها، حدث تغير كبير في حال الأحزاب الدينية، إذ انقضي بذلك أمد البلاء الأكبر، الذي حل طويلا بالناس من جراء الاضطهاد، وقد أقيم خلفاً لبطريق الرومان في الإسكندرية ليقوم علي ولاية أمر المذهب الملكاني، ولكن ولايته كانت لا تتعدي أسوار المدينة، وذهب عنه سلطانه وانفض عنه كثير من أتباعه. ولكن بطريق القبط (أي بنيامين، ولاحظ هنا أن «بتلر» يفرق بين بطريرك الإسكندرية الذي كان رومانياً ملكانياً وبطريرك المصريين الأرثوذكسي) كان لا يزال علي اختفائه طريداً يضرب في أنحاء الصعيد، ويهيم علي وجهه فيه. فكان يخيل للناس أن مذهبه قد بات صريعاً لا تكاد الحياة تدب فيه، مما أصابه من الوطء والعسف في محنته التي تطاولت به مدتها نحو عشر سنوات علي يد قيرس الذي كان لا يعرف الرحمة، ولا تخطر علي قلبه هوادة. وقد أصبحت مصر بعد وليس دينها دين المسيح، إذ وضعت عليها حماية الإسلام تعلو أحزابها جميعاً، وأصبح سيفه بينها فيصلا حائلا، فأدي ذلك إلي تنفس الناس في عباداتهم واختيار ما يشاءونه في تدينهم... وأصبح القبط في مأمن من الخوف الذي كان يلجئهم إلي إنكار عقيدتهم أو إخفائها تقية ومداراة، فعادت الحياة إلي مذهب القبط في هذا الجو الجديد للحرية الدينية».

ويتوقف الراهب «أنطونيوس الأنطوني» عند عبارة رائقة لـ «بتلر» تقول: «كان لعودة بنيامين أثر عظيم في حل عقدة مذهب القبط وتفريج كربته، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة قبل الضياع والهلاك».

وهي عبارة يضيف «بتلر» بعد سطور منها: «ليس من العدل أن يقول قائل إن كل من أسلم منهم (من القبط) إنما كان يقصد الدنيا وزينتها، فإنه مما لا شك فيه أن كثيراً منهم أسلم لما كان يطمع فيه من مساواة بالمسلمين الفاتحين، حتي يكون له ما لهم، وينجو من دفع الجزية. ولكن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقيدتهم غير راسية، وأما الحقيقة المرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان منها من عصيان لصاحبها، إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها التي كانت تنشأ بين شيعها وأحزابها. ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجأوا إلي الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته».

هكذا يصف بتلر دخول الأقباط «في دين الله أفواجاً»، وهو يراهم «عقلاء» اعتصموا بأمن الإسلام واستظلوا بوداعته وطمأنينته، إذ أتاح لهم وللمرة الأولي منذ نحو ألف سنة ـ أي منذ غزو «الإسكندر» مصر في 332 ق. م ـ أن يحظوا بالمساواة؛ لهذا تمسكوا بالإسلام، علي عكس هؤلاء الذين سبق أن اعتنقوا المذهب الملكاني (مذهب الدولة الرومانية) رغباً أو رهباً، فإنهم ـ حتي المطارنة منهم ـ سرعان ما عاد من لم يسلم منهم إلي ملته الأولي (الأرثوذكسية). يقول «بتلر» عمن دخل الإسلام من المصريين: «لم يكن من اليسير أن يعاد من خرج من المسيحية إلي حظيرتها بعد أن قطع أسبابها، فإن ذلك كان لا رجاء فيه». وعلي نقيض ذلك يصف «بتلر» سهولة وسرعة عودة «من اضطر إلي اتباع مذهب الملكانيين خوفا أو كرها». ويضيف أن بنيامين «اتجهت همته إلي إصلاح الأديرة، لا سيما ما كان منها في وادي النطرون، وقد لحقها من التخريب في أوائل القرن السابع ما لم تعد معه إلي سابق عهدها».

ويورد «بتلر» علي لسان «بنيامين» عبارة يقول فيها إن القبط بعد الفتح «فرحوا كما يفرح الأسخال (صغار الضأن) إذا ما حلت قيودهم وأطلقوا ليرتشفوا من ألبان أمهاتهم». ثم يضيف: «وقد كتب (حنا النقيوسي) بعد الفتح بخمسين عاما، وهو لا يتورع عن أن يصف الإسلام بأشنع الأوصاف، ويتهم من دخلوا فيه بأشد التهم، ولكنه يقول في عمرو (بن العاص) إنه: قد تشدد في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، ولكنه لم يضع يده علي شيء من ملك الكنائس، ولم يرتكب شيئاً من النهب أو الغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلي آخر مدة حياته».

وفي كتابه «تاريخ الكنيسة القبطية» يقول القس«منسي يوحنا»: «بينما كان الفاتح العربي يشتغل في تدبير مصالحه بالإسكندرية، سمع رهبان وادي النطرون وبرية شيهات، أن أمة جديدة ملكت البلاد، فسار منهم إلي عمرو سبعون ألفاً حفاة الأقدام، بثياب ممزقة، يحمل كل واحد منهم عكازاً... وطلبوا منه أن يمنحهم حريتهم الدينية، ويأمر برجوع بطريركهم من منفاه، أجاب عمرو طلبهم، وأظهر ميله نحوهم فازداد هؤلاء ثقة به ومالوا إليه.. خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور، ويبيح لهم إقامة الكنائس والمعابد، في وسط الفسطاط التي جعلها عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة، علي حين أنه لم يكن للمسلمين معبد، فكانوا يصلون ويخطبون في الخلاء».

ويذكر الراهب القمص «أنطونيوس الأنطوني» أن البروفسير «جروهمان» اكتشف وثيقتين، عبارة عن برديتين مكتوبتين باليونانية، يرجع تاريخهما إلي 22 هـ ـ 642 م، وملحق بهما نص بالعربية:

الأولي: إيصال علي أحد أمراء جند المسلمين، ويدعي «عبد الله» يقر فيه بأنه تسلم 65 نعجة لإطعام جنوده، وقد حرره الشماس يوحنا مسجل العقود، في 30 من شهر برمودة، وعلي ظهر البردية كتب: «شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد وهذا خصماً عن جزية التوقيت الأول».

الأخري: رسالة جاء فيها: «باسم الله، أنا الأمير عبدالله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة بسوفتس، وأرجو أن تبيعوا إلي عمر بن أصلع، لفرقة القوطة، علفاً بثلاثة دراهم.. وإلي كل جندي غذاء من ثلاثة أصناف» ويورد «أنطونيوس الأنطوني» تعليق الأستاذ «جروهمان» الذي قال فيه: «إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب، قلما نراها من شعب منتصر».

وتزايل العبارة دهشتها، كما تنحل عقدة هذه الـ «قلما» حين نفهم أننا ـ ومنذ اللحظة الأولي للفتح ـ لم نكن بصدد غالب ومغلوب، ببساطة لأن الطرف «المغلوب» كان الرومان ـ وليس القبط ـ والرومان لم يكونوا إلا جيشاً محتلاً، غصب حكم مصر نحو سبعة قرون، حتي انهزم، فجلا عن البلاد، عائداً إلي دياره. لم نكن بصدد غالب ومغلوب، بل جماعة متجانسة من البشر (سرعان ما أصبحت شعباً واحداً) فيها عرب يحفظون للقبط أن لهم «نسبا وصهرا»، وقبط فرحوا بالفتح فرحة رضيع أطلق ليشرب من لبن أمه. ثم إن هؤلاء وهؤلاء امتزجوا ـ بالنسب والصهر ـ والأهم أن الإسلام ساوي بين مواطني دولته من مختلف الأعراق والأجناس، ومنحهم من العدل ما يجعل «أمير الجند» يوقع ـ مديناً ـ علي إيصال يحرره «شماس» لصالح راعي غنم. كما منحهم من حرية العقيدة ما جعلهم يجاهرون بشعائرهم، ويعيدون ترميم ما تهدم من معابدهم عبر عقود القهر. هذا ما أقر به حتي «حنا النقيوسي» أشد المؤرخين تحاملاً علي الإسلام والمسلمين، الذين هم ـ تاريخيا ـ أحفاد الأغلبية المصرية التي آمنت بالإسلام دينا قيما، وبات خروجها منه «أمرا لا رجاء فيه»، كما يقول «بتلر»، وحسبك أنه الدين الذي أنقذت عدالة دولته ملة الأقباط الأرثوذكس من «الهلاك والضياع»، وأعاد لهم كنائسهم يصلون فيها، بينما أتباعه يصلون في الخلاء، قبل أن يبنوا مسجدهم الأول علي أرض مصر. فهل يفهم «إخواننا» مرددو أكذوبة «البدو الغزاة»، ويدرك هؤلاء الذين «ينامون مع العدو» أنهم لا يرتكبون المغالطة ولا يتورطون في الخيانة فحسب، لكنهم ـ وهذا أسوأ ـ يجسدون «الغباء» في أشد صوره عناداً وتخلفاً؟

المرصد

الدستور


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق